بقلم / د. صباح عبدالله الكثيري
يعد الباب الرابع من مسودة الدستور اليمني الاتحادي أحد أكثر الأبواب إثارةً للجدل، حيث يُحدد الإطار العام لنظام الحكم الاتحادي وتقسيم البلاد إلى أقاليم. وعلى الرغم من أنه يُروّج له كخطوة نحو الفيدرالية واللامركزية، إلا أن التحليل العميق لمضامينه يكشف أنه مجرد قناع لإعادة إنتاج الحكم المركزي بصيغة جديدة، حيث يتم نهب ثروات الأقاليم وتهميش المواطنين تحت غطاء “الاتحاد الفيدرالي”.
أولاً/ نظام الأقاليم: حكم ذاتي أم إدارة شكلية؟
يُفترض في أي نظام فيدرالي حقيقي أن يمنح الأقاليم سلطات واسعة في اتخاذ القرارات الاقتصادية والتشريعية والإدارية، بما في ذلك حق إدارة الموارد الطبيعية وتوزيعها وفقاً لأولويات السكان المحليين. ولكن، بالنظر إلى تفاصيل نظام الأقاليم في المسودة الدستورية، نجد أنه لا يحقق هذا الهدف، بل يكرس سلطة المركز على حساب الأقاليم.
أ-الثروات في يد السلطة المركزية
• تحتفظ الحكومة الاتحادية بالسيطرة الكاملة على الثروات الطبيعية (النفط، الغاز، المعادن، الموانئ، الموارد البحرية)، ولا تمنح الأقاليم حق إدارتها بشكل مستقل.
• يتم توزيع جزء من العائدات للأقاليم، لكن وفق آلية تحددها الحكومة المركزية، مما يجعل الأقاليم تعتمد على المركز بدلاً من أن تكون مستقلة اقتصادياً.
• هذا النهج يتناقض مع الأنظمة الفيدرالية الحقيقية التي تمنح الولايات والمقاطعات سلطة التحكم في مواردها مع فرض ضرائب على المستوى الاتحادي.
ب) الصلاحيات التشريعية والتنفيذية: مركزية بلباس اتحادي
• يمنح الدستور السلطة المركزية حق رفض أو تعديل أي قرارات أو قوانين تصدرها الأقاليم، مما يحوّل هذه الأخيرة إلى مجرد إدارات محلية تابعة للمركز.
• لا تستطيع الأقاليم فرض قوانين اقتصادية أو سياسية خاصة بها دون موافقة السلطة المركزية، مما يعيق أي عملية تنموية محلية مستقلة.
• القضاء المحلي لا يتمتع باستقلالية حقيقية، إذ يبقى خاضعاً للسلطة الاتحادية، مما يمنع الأقاليم من تطبيق قوانينها الخاصة.
ج) إعادة إنتاج السلطة المركزية بصيغة اتحادية
• يتم تعيين حكام الأقاليم وإداراتها من قبل السلطة المركزية، مما يجعل الأقاليم مجرد فروع للحكومة المركزية بدلاً من أن تكون وحدات مستقلة في صنع القرار.
• في الأنظمة الفيدرالية الحقيقية، يكون لحكومات الولايات/الأقاليم استقلال كامل في اتخاذ القرارات المحلية، بينما في هذه المسودة، نجد أن الحكومة المركزية تُخضع الأقاليم بالكامل لقراراتها، مما يعيد إنتاج المركزية بصيغة جديدة.
ثانيًا / تهميش المواطنين في الأقاليم واستبعادهم من المشاركة الفعلية
يُروج لهذا النظام على أنه يوفر مشاركة سياسية أوسع ويمنح المواطنين حقوقاً أوسع في اتخاذ القرارات المحلية، لكن الواقع أنه يعيد إنتاج نفس النموذج القديم من التهميش، وذلك من خلال:
أ) استبعاد القوى الفاعلة من صياغة الدستور
• لم يتم إشراك معظم الأطياف السياسية والمناطقية في صياغة الدستور، بما في ذلك المجلس الانتقالي الجنوبي، الحضارم، الشبوانيون، المهريون، والسقطريون.
• تم فرض رؤية محددة للأقاليم دون مراعاة الهويات الثقافية والجغرافية والتاريخية لكل منطقة، مما جعل الدستور مفروضاً من أعلى بدلاً من أن يكون نتيجة توافق وطني.
ب) النظام الانتخابي وإضعاف المشاركة الشعبية
• يُعطي الدستور للسلطة المركزية القدرة على إدارة الانتخابات في الأقاليم، مما يعني إمكانية التلاعب بها لضمان بقاء السلطة المركزية في السيطرة.
• لا توجد ضمانات حقيقية لاستقلالية الحكومات المحلية، مما يجعلها غير قادرة على تمثيل السكان المحليين بشكل فعلي.
ج) التوزيع غير العادل للموارد والخدمات
• تظل الأقاليم تعتمد على المركز في توزيع الميزانيات والخدمات الأساسية، مما يسمح للحكومة المركزية باستخدام الميزانيات كأداة ضغط سياسي واقتصادي ضد الأقاليم المعارضة.
• لا يوجد نص واضح يضمن التوزيع العادل للثروات، مما قد يؤدي إلى استمرار التهميش والفقر في بعض الأقاليم، كما كان الحال في ظل النظام المركزي السابق.
ثالثًا/ البدائل الدستورية: كيف يمكن تحقيق عدالة حقيقية في نظام الأقاليم؟
بدلاً من هذا النموذج الهجين الذي يعيد إنتاج الحكم المركزي، يمكن اعتماد بدائل دستورية أكثر عدالة، تضمن تمثيلاً حقيقياً للأقاليم وتمنحها استقلالية حقيقية في إدارة شؤونها، ومنها:
أ) اعتماد فيدرالية حقيقية بدلاً من اللامركزية الشكلية
• منح الأقاليم صلاحيات تشريعية وتنفيذية مستقلة، بحيث يمكن لكل إقليم سن قوانينه الخاصة وإدارة موارده.
• إنشاء محاكم محلية مستقلة تماماً عن المركز، مما يمنع تدخل الحكومة الاتحادية في الشؤون القضائية للأقاليم.
• تحديد نسبة عادلة من الإيرادات النفطية والمعدنية لكل إقليم، بحيث يتم توزيع الثروات بشكل متوازن.
ب) ضمان تمثيل الأقاليم في السلطة الاتحادية
• إنشاء مجلس اتحادي يضم ممثلين عن كل إقليم، يكون لهم دور فعال في التشريع واتخاذ القرارات الوطنية.
• ضمان نظام انتخابي عادل يتيح لكل إقليم اختيار حكومته بعيداً عن تدخل السلطة المركزية.
ج) الاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي للأقاليم
• تعديل الدستور لضمان حقوق الأقاليم في الحفاظ على هوياتها الثقافية واللغوية، مثل اللغات المهرية والسقطرية.
• منح كل إقليم حق تحديد سياساته التعليمية والثقافية بما يتناسب مع هويته المحلية.
بالنهايه :
يُظهر تحليل الباب الرابع من مسودة الدستور اليمني الاتحادي أن النظام المقترح لا يحقق اللامركزية الحقيقية، بل هو مجرد إعادة إنتاج للحكم المركزي بصيغة جديدة. فالثروات لا تزال تحت سيطرة السلطة الاتحادية، والأقاليم لا تمتلك صلاحيات حقيقية، مما يعني استمرار نهب الموارد وتهميش المواطنين.
إن تحقيق نظام عادل للأقاليم يتطلب تبني نظام فيدرالي حقيقي يضمن للأقاليم استقلالاً سياسياً واقتصادياً، ويعطي المواطنين دوراً فعلياً في إدارة شؤونهم، بدلاً من فرض رؤية مركزية تخدم نخبة محددة على حساب بقية الشعب.
لتعزيز النقاش حول مسودة الدستور اليمني الاتحادي وتبيان تناقضاتها مع المبادئ الأساسية للفيدرالية والقوانين الدولية، يمكن الاستناد إلى المراجع القانونية التالية:
- -” الفيدرالية: مقدمة”
هذا الكتاب الصادر عن منتدى الفيدراليات يقدم نظرة شاملة على مفهوم الفيدرالية، مبادئها الأساسية، وكيفية توزيع السلطات بين الحكومة المركزية والأقاليم. يُبرز الكتاب أهمية التوزيع العادل للسلطات والثروات كأحد الأسس الفلسفية للدستور الفيدرالي.
- “الفيدرالية“
منشور صادر عن المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (IDEA)، يقدم هذا الكتاب نظرة معمقة على الفيدرالية، بما في ذلك توزيع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بين المستويات المختلفة للحكم. يُركز على أهمية استقلالية الأقاليم في إدارة شؤونها.
- “المفهوم القانوني والسياسي للفدرالية والتوزيع العادل للاختصاصات“
يتناول هذا البحث المبادئ الأساسية للفيدرالية، مع التركيز على التوزيع العادل للسلطات والثروات بين الحكومة المركزية والأقاليم. يُبرز أهمية استقلالية الأقاليم في إدارة شؤونها الداخلية
- “تنظيم العلاقة بين السلطة المركزية وسلطات الأقاليم في النظام الفدرالي“
يُركز هذا الكتاب على كيفية توزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والأقاليم في الأنظمة الفيدرالية، مع تقديم نماذج تطبيقية من دول مختلفة. يُبرز أهمية التوازن بين السلطات لضمان فعالية النظام الفيدرالي.
- “النظام الفيدرالي في العراق وتوزيع السلطات“
يُقدم هذا البحث نظرة تحليلية على تطبيق الفيدرالية في العراق، مع التركيز على توزيع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والأقاليم. يُبرز التحديات المرتبطة بتطبيق الفيدرالية في الدول ذات التنوع الثقافي والعرقي.
يمكن الاستناد إلى المراجع القانونية التالية:
1. “Federalism: A Very Short Introduction”
هذا الكتاب من تأليف مايكل بورغيس يقدم نظرة شاملة على الفيدرالية، مبادئها الأساسية، وكيفية توزيع السلطات بين الحكومة المركزية والأقاليم. يُبرز الكتاب أهمية التوزيع العادل للسلطات والثروات كأحد الأسس الفلسفية للدستور الفيدرالي.
2. “The Oxford Handbook of Comparative Constitutional Law”
يُركز هذا الكتاب على مقارنة الأنظمة الدستورية المختلفة، بما في ذلك الفيدرالية، ويُقدم تحليلاً عميقًا لتوزيع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية بين المستويات المختلفة للحكم. يُركز على أهمية استقلالية الأقاليم في إدارة شؤونها.
3. “Comparative Federalism: A Systematic Inquiry”
يُقدم هذا الكتاب تحليلاً شاملاً لمفهوم الفيدرالية، مع التركيز على التوزيع العادل للسلطات والثروات بين الحكومة المركزية والأقاليم. يُبرز أهمية استقلالية الأقاليم في إدارة شؤونها الداخلية.
4. “Federalism and the Constitution of Canada”
يُركز هذا الكتاب على كيفية توزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية والأقاليم في الأنظمة الفيدرالية، مع تقديم نماذج تطبيقية من دول مختلفة. يُبرز أهمية التوازن بين السلطات لضمان فعالية النظام الفيدرالي.
5. “The Federal Idea: Essays in Honour of Ronald L. Watts”
يُقدم هذا الكتاب مجموعة من المقالات التي تتناول تطبيق الفيدرالية في دول مختلفة، مع التركيز على توزيع الصلاحيات بين الحكومة المركزية والأقاليم. يُبرز التحديات المرتبطة بتطبيق الفيدرالية في الدول ذات التنوع الثقافي والعرقي.
الخاتمة :
من خلال هذه المراجع، يمكن ملاحظة أن مسودة الدستور اليمني الاتحادي تتعارض في بعض جوانبها مع المبادئ الأساسية للفيدرالية، خاصة فيما يتعلق بتوزيع السلطات والثروات بين الحكومة المركزية والأقاليم، مما قد يؤدي إلى إعادة إنتاج الحكم المركزي وتهميش الأقاليم والمواطنين فيها.
الصورة التوضيحية مرجع صورة الكتاب .